الاستقطاب الإعلامي الأمريكي- صراع اليمين واليسار وتأثيره على الرأي العام

المؤلف: أحمد الجميعة11.09.2025
الاستقطاب الإعلامي الأمريكي- صراع اليمين واليسار وتأثيره على الرأي العام

تبرهن دراسات الممارسة الإعلامية الاحترافية على أن الجمهور على بيّنة من التحيزات الكامنة في وسائل الإعلام والاتصال، بيد أن النقاش الأكاديمي والمهني المعاصر يتمحور حول العوامل المؤثرة في وعي الجمهور المسبق بهذه التحيزات، كالتجارب الشخصية السابقة، والمعتقدات الأيديولوجية الراسخة، والميول السياسية والاجتماعية، والتوجهات المميزة للوسيلة والرسالة الإعلامية، بالإضافة إلى الجدل الدائر حول مدى تأثير هذه العوامل في سلوك الجمهور، سواء من خلال التعامل مع المضامين المنحازة بأحكام مسبقة واستنتاجات متسرعة، أو تبني معتقدات غير دقيقة، أو إظهار ردود فعل مبالغ فيها وغير متزنة.

في خضم هذه المعطيات، تبرز "نظرية الطرف الثالث" التي تفترض أن التغطية السلبية في وسائل الإعلام قد تؤثر في أفراد المجتمع بشكل عام، ولكنها لا تؤثر في "هذا الشخص" تحديداً، وذلك بفضل معرفته المتعمقة، وخبراته التراكمية، وقدراته التحليلية التي تمكنه من تقييم الرسالة الإعلامية وفهم أبعادها المتنوعة، بما في ذلك التحيزات المتضمنة.

اليوم، ومع انتهاء المنافسة الرئاسية المحتدمة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد تحليل معمق لأبرز مؤشرات الخطاب الإعلامي للحملات الانتخابية التي خاضها كل من دونالد ترامب وكامالا هاريس، يتجلى لنا حجم الصراع الدائر، والذي لا يقتصر على مجرد منافسة بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، بل يتعداه إلى صراع بين أمريكا اليمينية وأمريكا اليسارية، وبين المتطرفين من كلا الجانبين، وهو ما أدى إلى وصول الانقسام المجتمعي إلى ذروته، حينما تجسدت سلبيات كل حزب على لسان المرشحين أنفسهم؛ حيث نجد الرئيس ترامب ينادي بتحرير أمريكا من نفوذ اليسار، بينما تطالب كامالا هاريس بالقضاء على الديكتاتورية والعنصرية التي يمثلها اليمين.

هذا الصراع المحتدم بين اليمين واليسار الأمريكي قد تجلى في هذه الانتخابات كأداة لجذب واستقطاب الناخبين بشكل غير مسبوق، وبالتالي، لم تعد العملية الانتخابية قائمة على أساس تنافس بين أحزاب ذات برامج مختلفة، بل تحولت إلى صراع بين أفكار أيديولوجية بلغت في بعض الأحيان حد التطرف؛ فالناخب الأمريكي بات يحدد موقفه أولاً بالانحياز إلى اليمين أو اليسار، ثم يدلي بصوته بناءً على هذا الانحياز، وهو ما يعزز النظرية القائلة بأن رؤساء أمريكا ليسوا هم الحكام الفعليين، بل إن الحاكم الحقيقي هو جماعات الضغط والمصالح التي يمثلها كل تيار على حدة.

على سبيل المثال، نذكر الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام حول مشاركة فريق السباحة النسائي في كلية رونوك بولاية فرجينيا في تجمع انتخابي لدعم الرئيس ترامب، وتصريح قائدة الفريق بأن "اليسار الراديكالي قد سمح بانضمام أحد الرجال المتحولين جنسياً إلى الفريق، وهو أمر غير مقبول بتاتاً، ولذا فإننا نعلن دعمنا للرئيس ترامب".

هذا الخبر، الذي انتشر على نطاق واسع، لم ينتشر لمجرد أنه يغطي حدثاً عابراً، بل لأنه لخص بدقة الواقع الانتخابي الأمريكي، وأظهر أن القضية لم تعد محصورة في صراع بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل تحولت إلى صراع بين "اليمين واليسار"، وهو ما أدى إلى اختلاف صياغة الخبر بحسب توجهات كل وسيلة إعلامية؛ فالبعض المحسوب على اليمين صور هذا الحدث على أنه رفض قاطع لفكرة "الجنون الجنسي اليساري"، بينما انحاز الطرف الآخر إلى فكرة مناهضة اليمين للحريات والمساواة بين جميع أفراد المجتمع.

أما "الطرف الثالث" الذي يتابع هذه التفاصيل عن كثب، فهو يدرك تماماً أبعاد التحيز الكامن في مضامين تغطية هذا الحدث، والأسباب التي أدت إلى هذا التحيز، وبالتالي فهو أقل عرضة للتأثر سلباً بهذا الصراع، وأكثر شعوراً بالخوف والقلق على الآخرين الذين لم يستوعبوا أبعاد هذا الصراع، وخاصة على مستقبل أمريكا وانقسامها المتزايد بين اليمين واليسار.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة